ذات الـــــــنـــــــطـــــــــــاقــــــــيــــــــــن
للزي الشرعي والكتاب الإسلامي
من هي ذات النطاقين
أسماء ...ذات النطاقين / بقلم الأستاذ محمد راتب النابلسي
الدرس 25\50 سيرة الصحابية : أسماء بنت أبي بكر لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 05/04/1993
تفريـغ : م المهندس عرفان نابلسي .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، و زدنا علما ، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع بداية الدرس الخامس والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابية اليوم السيدة أسماء بنت أبي بكر .
ويا أيها الإخوة الأكارم ، لا فرق في البطولة بين رجل وامرأة ، فالإسلام يصنع المعجزات ؛ يصنع الأبطال رجالاً كانوا أم نساءً ؛ فصحابيَّتُنا الجليلة جمعت المجد من أطرافه كلها ؛ أبوها صحابي جليل ، وجدها صحابي جليل ، وأختها صحابية ، وزوجها صحابي ، وابنها صحابي ، وحسبها بذلك شرفاً وفخرًا .
وبما أننا ذكرنا النسب فليَ تعليق عليه ؛ النسب تاج لا يوضع إلا على رأس المؤمن ، فإن لم يكن مؤمناً فلا قيمة له ، والدليل قال تعالى :
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
(سورة المسد)
أبو لهب عم النبي ، وإذا كان هناك إيمان فالنسب تاج يزيد الشريف شرفاً ، ويزيد ذا المروءة مروءةً ، أما إن لم يكن هناك إيمان فلا قيمة للنسب إطلاقاً ، بل هو حجة على صاحبه ، وأقوى دليل حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الطويل ، وفيه :وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ *
(رواه مسلم)
فمن دون إيمان فلا قيمة للنسب .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا *
(متفق عليه)
***
لا تقل : أصلي وفصلي أبدا إنما اصل الفتى ما قد حصل
***
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ *
(رواه الترمذي)
فأبو سفيان زعيم قريش وقف بباب عمر ساعات طويلة فلم يُؤذن له ، و بلال و صهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان ؛ فآلمه ذلك فلما دخل عليه قال : زعيم قريش يقف ببابك ساعات طويلة ولم يؤذن له و صهيب و بلال يدخلان بلا استئذان ؛ فأجابه بكلمة واحدة قال : يا أبا سفيان أأنت مثلهم ؟ هذا هو الجواب ؛ فالنسب والحسب والأسرة والعائلة والرفعة هذه من دون إيمان لا قيمة لها إطلاقاً ، لكن إذا آمنت فربما كان النسب تاجاً تتوِّج به إيمانك ، هذا موضوع النسب .
ومرة إنسان سألني شخصٌ عن شجرة نسب ، فقلت له : أنا عندي شجرة مختصرة تصلح لكل مؤمن ، وفي الأثر : أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً .
وانتهى الأمر ؛ فإذا قلنا هذه الصحابية جمعت المجد من أطرافه ؛ أبوها صحابي ، وجدها صحابي ، وأختها صحابية ، و زوجها صحابي ، وابنها صحابي ؛ فلأنها مؤمنة ذكرنا ذلك .
سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ *
(أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن عمرو بن عوف)
نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ ، لَمْ يَعْصِهِ *
(كنز العمال عن عمر موقوفا)
هذا موضوع النسب لا يُتكلم به ، ولا يُفتخر به ، ولا يُذكر إلا مع الإيمان ، وهو تاج يتوِّج الإيمان ؛ فإن لم يكن هناك إيمان فلا أحد يعبأ به ؛ أبوها سيدنا الصديق ، خليل النبي عليه الصلاة والسلام في حياته ، وخليفته بعد مماته ؛ جدها أبو عتيق ، والد أبي بكر رضي الله عنه ؛ أختها أم المؤمنين عائشة الطاهرة المبرَّأة ؛ زوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام .
يروي التاريخ أن سيدنا معاوية جاءه كتاب شديد اللهجة فيه تجاوز ؛ أما بعد فيا معاوية ؛ معاوية باسمه فقط ، من دون لقب ، لا أمير المؤمنين ، ولا خليفة المسلمين ، ولا شيء من هذا القبيل ؛ أما بعد فيا معاوية ، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك ، وإلا كان لي معك شأن، والسلام ؛ دفع معاوية بكتابه إلى ابنه يزيد ، فقال له : يا يزيد ماذا نصنع ؟ لما قرأ الكتاب غلا الدم في عروقه ، وقال : أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده ، وآخره عندك ، يأتونك برأسه ؛ وكان معاوية حكيمًا حليمً ، فقال : يا بني غيرُ ذلك أفضلُ ؛ أملى على الكاتب ، وقال له : اكتبْ : أما بعد ؛ فقد وقفتُ على كتابِ ولد حواري رسول الله ؛ من أرسل الكتاب ؟ عبد الله بن الزبير ، والزبير بن العوام حواري رسول الله .
وقال له : أكتب أما بعد فقد وقفت على كتابي ولد حواري رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه ، ولقد نزلت له عن الأرض ومَن فيها .
فردّ عليه ابن الزبير : أما بعد ؛ فيا أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءك ، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل ؛ واستدعى ابنه يزيد ، وقال له : انظر ماذا كان اقتراحك ؛ أن نرسل له جيشاً أوله عنده ، وآخره عندنا ، يأتون برأسه ؛ انظر إلى الجواب ، قال : يا بني من عفا ساد ، ومَن حلم عظُم ، ومَن تجاوز استمال إليه القلوب .
الزبير بن العوام زوج السيدة أسماء بنت أبي بكر ؛ لقد كانت من السابقين إلى الإسلام ؛ يعني تطبيقاً لهذا ، إذا جاء شخصٌ إلى المسجد منذ شهر أو شهرين ، وصار يتطاول على أخ له مضى عليه في المسجد عشر سنوات فهذا سوء أدب ؛ القِدَم له قيمة ، حتى في الجيش له قيمة ؛ متقدم ، لو اجتمع ضابطان برتبة واحدة ، ومن كلية واحدة ، وبعلامات واحدة ، فمَن كان منهما أقدَمَ ، ولو بيوم واحد يتولى قيادة الفرقة ؛ فعامل الزمن له قيمة ؛ فأخٌ قديم ، وله سنوات عدة ، فله إذًا شأنه ومكانته ، وله أفضلية السبق في طريق الإيمان .
كانت أسماء من السابقين إلى الإسلام ، إذ لم يتقدم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنساناً ، بين رجل وامرأة ؛ فكان ترتيبها المسلمة الثامنة عشرة ، فهذه الصحابية الجليلة لقبت بذات النطاقين ؛ أنا أقول الجليلة لأن الإسلام يصنع الأبطال ، ذكوراً كانوا أم إناثاً ، و أنا أشهد الله أن في مجتمعاتنا من النساء ما إن إحداهن لتَعْدِل عند الله مائة ألف رجل ، بطاعتها لله ، و تفانيها بخدمة زوجها ، وأولادها ، وتقديمها للمجتمع عناصر طيبة ، وحسن تربيتها ، وصبرها على أسرتها .
عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها قالت : يا رسول الله ، أنا وافدة النساء إليك ، إن الرجال فُضِّلوا علينا بالجمع والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج ، والعمرة، والرباط ، فقال عليه الصلاة والسلام : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي مَن وراءك من النساء أنَّ حسنَ تَبَعُّلِ إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله *
(كنز العمال)
هذه السيدة الجليلة الصحابية الكريمة لقبت بذات النطاقين ، لأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زاداً ، وأعدَّتْ لهم سقاءً ، فلما لم تجد ما تربطهما به شقت نطاقها شقين ؛ فربطت بأحدهما المزود ، وبالثاني السقاء ؛ فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يبدلها الله منهما نطاقين في الجنة ، فلقِّبَتْ يومئذٍ أسماءُ بنت أبي بكر ذات النطاقين ؛ تزوج بها الزبير بن العوام وكان شاباً مرملاً ، يعني فقيراً ؛ وليس له خادم ينهض بخدمته ، وليس له مال يوسع به على عياله غير فرس اقتناه ؛ والبطولة أن تزوج ابنتك للمؤمن ، فقيراً كان أم غنياً ، و لا تعبأ بالمال ، لأنه إن كان فقيراً ، و كان مؤمناً فسوف يغنيه الله من فضله .
سعيد بن المسيب من كبار التابعين ، وكان قاضياً من كبار القضاة في عهد عبد الملك بن مروان ، وكان له ابنة من خير النساء ، تحفظ كتاب الله ، فقيهة ، وتحفظ الحديث الشريف ، وعلى مستوىً رفيع من الكمال الخُلقي والخَلقي ، ولأنها من أعلى النساء علماً وخَلقاً وخُلقاً خطبها عبد الملك لابنه الوليد ، والقصة طويلة ، لكن آخر فقرة في القصة عنده تلميذ فقير جداً ، غاب عنه أسبوعين ، فلما تفقّده قال : يا سيدي ، ماتت زوجتي ، قال : لمَ لمْ تخبرنا ؟ فقال : استحييت أن أخبرك ، وكنت قد هيأتها للدفن ، فقال له : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا يا سيدي ، أنا فقير ، فقال له : أزوجك ابنتي ؛ فما صدق من شدة الفرح ، ولا يملك شيئاً ، وفي الليلة نفسها طُرِقَ الباب ، فقلت : من الطارق ؟ قال : سعيد ، قال هذا التلميذ الفقير : استعرضت كلَّ مَن اسمه سعيد ، فلم يخطر على بالي أن يكون الطارق سعيد بن المسيب ؛ فلما فتح الباب رأى شيخه ، ومعه ابنته التي عقد له عليها بالنهار ، ودفعها إليه ، وقال : خذْ زوجتك ، لقد كرهتُ أن تنام الليلة وحدك .
الآن لا يصل إليها الخاطب ، يقضي سنتين ونصف في الخِطبة ، يكاد يموت ، وغرفة النوم لم تنتهِ ، فتعقيد الحياة يذهب برونقها في زماننا هذا .
عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ *
(رواه الترمذي)
كانت أسماء نِعْمَ الزوجة الصالحة لزوجها ، تخدمه وتسُوس فرسه ؛ واحد خطب امرأة ، فأراد أن ينصحها ، قال : يا فلانة إن في خلقي سوءاً ؛ فأجابته إجابة مفحمة ، قالت له : إن أسوأ خلقاً منك من حاجك إلى سوء الخلق ؛ هكذا المرأة المؤمنة .
كانت له نِعْمَ الزوجة الصالحة ، تخدمه ، وتسوس فرسه ؛ ترعاه ، وتطحن النوى لعلفه ، حتى فتح الله عليه ، فغدا من أغنى أغنياء الصحابة ؛ ولما أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فراراً بدينها إلى الله ورسوله ، كانت قد أتمَّتْ حملها بابنها عبد الله بن الزبير ؛ وعبد الله بن الزبير هذا الذي كان مع غلمان يومًا يلعبون ، فمر عمر بن الخطاب ، فلما رأوه ، وكان ذا هيبة شديدة تفرَّقوا إلا عبد الله بن الزبير ، بقي واقفاً بأدب ؛ شيء يلفت النظر ، فلما وصل إليه قال : يا غلام، لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير ، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك ، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك ، والطريقُ يسعُني ويسعُك .
لم يمنعها الحمل من تحمّل مشاق الرحلة الطويلة ، فما إن بلغت قباء حتى وضعت وليدها عبد الله بن الزبير في أثناء الهجرة ، فكبّر المسلمون ، وهلّلوا ، لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة ؛ فحملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووضعته في حجره ، فأخذ شيئاً من ريقه الشريف ، وجعله في فم الصبي ثم ، حنكه ودعا له ، ومن السنة تحنيك المولود عند ولادته ، والأذان في أذنه اليمنى ، والإقامة في أذنه اليسرى .
فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكر من خصال الخير ، و شمائل النبل ، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلا للقليل النادر من الرجال ، فقد تجد امرأة تعدل عند الله مائة ألف رجل ، برجاحة عقلها ، وصدق إيمانها ، واستقامتها ، و إخلاصها ، و تفانيها في خدمة زوجها و أولادها ، و يجب أن نعرف أن المرأة كالرجل في التكليف و في التشريف ، لكن لها خصائص تميزها عن الرجل ، و له خصائص تميزه عن المرأة ، و ليست مجال انتقاص لكليهما ؛ مثلاً الأمية في النبي صلى الله عليه و سلم نقص أم كمال ؟ كمال ؛ أمّا الأمية فينا فنقصٌ ؛ إنّها صفة واحدة ، لكنها في النبي كمال ، و في المؤمنين نقص .
هذا مثل واقعي ؛ المكان المعد للبضاعة في السيارات إذا كان واسعاً جداً في الشاحنات نقص أم كمال ؟ كمال ، أما في السيارات التي مهمتها نقل الركاب ؟ فهو نقص .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ قَالَ أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ *
(متفق عليه ، واللفظ لمسلم)
لم يقصد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذم المرأة ، لكن عقل المرأة مع عاطفتها مجموعهما واحد ، وعقل الرجل مع عاطفته مجموعهما واحد ، فحينما تُهَيَّأَ المرأة لتكون أمًا فلا بد من عاطفة جياشة ، ولا بد من إحساس مرهف ، ولا بد من رقّة في المشاعر ؛ أمّا حينما يُهَيَّأُ الرجل ليقود أمةً ، أو يكسب رزقاً فلا بد من عقل يزيد على عاطفته ، ولا بد من أجل تربية الأم أولادَها من عاطفة تزيد على عقلها ، إذاً فالمجموع ثابت ، فكمالها في زيادة عاطفتها على عقلها ، وكماله في زيادة عقله ، ومجموع العقل والعاطفة في النوعين واحد .
لكن هناك طُرفة ، إنّ امرأة في الطريق رأت شيخاً أزهرياً ، فقالت يا : سيدي أيحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عنا : ناقصات عقل ودين ، فقال : لا والله ، ليس له حقّ ، لكنْ هذا ليس لكنّ الآن ، بل هذا للصحابيات ، أمّا أنتن هذه الأيام فلا عقل ، ولا دين ، أجابها إجابة مفحمة .
ولنضربْ مثلاً ؛ جاء الزوجُ إلى البيت الساعة الثانية ظهرًا ، الغرف مضطربة ، والمطبخ غير نظيف ، والأولاد غير مرتَّبين ، والبيت في أعلى درجات الاضطراب والفوضى وعدم التنظيف ؛ دخل إلى البيت فإذا امرأته تلقي عليه محاضرةً في أيديولوجيات معينة ، أيرضيه منها ذلك ؟ فمهما كان عقلها راجحاً جداً ، وإدراكها عميقاً جداً ، واطلاعها واسعًا جداً ، وألقت عليه محاضرة ، والبيت هذا حاله ؛ أيرضيه ذلك ؟ لا بد أن تكون أحاسيسها مرهفةً .
قيل : هذه أسماء بنت أبي بكر كانت من الجود حيث يضرب بها المثل ؛ حدث ابنها عبد الله فقال : ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمي أسماء ، لكن جودهما مختلف ، أما خالتي فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها ما يكفي قسمته بين ذوي الحاجات ، وأما أمي فكانت لا تمسك شيئاً إلى الغد .
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سائل فقال له : اذهب إلى فلان ، يقصد أحد الصحابة ، فانطلق إلى داره فإذا هو يلتقط الحَبّ من الأرض ، حبَّ القمح المتناثر فقال في سرِّه : هذا الذي يلتقط الحب أيعقل أن يعطيني شيئًا الآن ؟ مستحيل ،أن يعطيني ، ولم يكلمه إطلاقاً ، وسكت ؛ فقال الصحابي : يا رجل لِمَ أتيت إليَّ ؟ فاضطرب ، وقال : واللهِ لقد أرسلني النبي الكريم إليك لتعطيني مما أعطاك الله ، فلما رأيتك تلتقط الحب توقعت ألاّ تعطيني شيئاً ؛ فقال له : يا أخي نجمع هكذا لننفق هكذا ؛ اذهب وخذ أيّة ناقة شئت ، فأخذ ناقة فتبعها عشرة من أولادها ، فقال : خذهنّ جميعاً ، فقال له : عجبت لأمرك ! تلتقط الحَبَّ من الأرض ، وتنفق هذا الإنفاق ؛ فأجابه قائلاً : يا أخي نجمع هكذا لننفق هكذا .
السيدة عائشة تجمع وتنفق نفقةً كبيرة والسيدة أسماء كلما توافر بين يديها شيء تنفقه في الحال ، مذهبان في الجود ؛ كانت أسماء عاقلة ، تحسن التصرف في المواقف الحرجة ؛ وعندما خرج الصديق مهاجراً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل معه كل ماله ؛ ومرة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال : الله ورسوله ، لم يُبقِ عليه إلا جبته ، حمل ماله كله ومقداره ستة آلاف درهم ، ولم يترك لعياله شيئاً ، فلما علم والده أبو قحافة برحيله ، وكان ما يزال مشركاً جاء إلى بيته ، وقال لأسماء : واللهِ إني لأراه قد فجعكم بماله ، بعد أن فجعكم في نفسه ، فقالت له : كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا مالاً كثيراً ، ثم أخذت حصىً ، ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال ، وألقت عليه ثوباً ثم أخذت بيد جدها ، وكان مكفوف البصر ، وقالت : يا أبتِ ضع يدك على المال ، وانظر كم ترك لنا من المال ، فوضع يده عليه ، وقال : لا بأس إذا كان ترك لكم هذا كله ، فقد أحسن ، فقد حلّت مشكلة لئلا يغضب وينفجر على ابنه الذي أخذ المال كله ، وقد عرفت حكمة أبيها ، وشدة قلقه على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهما يقدِمان على رحلة مجهولة ، فأخذ المال كله لينفق عليه ، لذلك عليه الصلاة قال : ما ساءني قط ، فاعرفوا له ذلك ؛ وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ *
(رواه البخاري)
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَعْتَقَ بِلَالاً مِنْ مَالِهِ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ صَدِيقٌ رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلَائِكَةُ رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ *
(رواه الترمذي)
وما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر *
(مختصر تفسير الصابوني)
وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر .
وفي بعض الروايات : تسابقت أنا وأبو بكر فكنا كهاتين .
وسيدنا الصديق ما عبد صنمًا قط ، ولا شرب خمرًا قط .
ليس له جاهليـة ؛ أرادت أسماء أن تسكن نفس الشيخ ، وألاّ تجعلـه يبذل لها شيئاً من ماله الخاص ، ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشرك عليها يداً ، حتى لو كان جدها ، وهذا الموقف من أبرز مواقف السيدة أسماء الذي يدل على رجاحة عقلها ، وقوة إيمانها ، وشدة حزمها ، وحينما لقيت ولدها قبل أن يموت بقليل ؛ ابنها هو عبد الله بن الزبير ، بُويِع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية ، ودانت له الحجاز ومصر والعراق وخراسان ، وأكثر بلاد الشام ، لكن بني أمية ما لبثوا أن سيّروا لحربه جيشاً عرمرماً بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي ، فدارت بين الفريقين معارك طاحنة ، أظهر فيها ابن الزبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كَمِيٍّ مثله ؛ غير أن أنصاره جعلوا ينفضُّون عنه شيئاً فشيئاً ، فلجأ إلى بيت الله الحرام ، واحتمى هو ومن معه في حمى الكعبة المعظمة ، وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمه أسماء وكانت عجوزاً فانيةً ، قد كُفّ بصرُها ، وكانت سنها تزيد عن مائة ، قال لها : السلام عليك يا أمي و رحمة الله و بركاته؛ قالت : وعليك السلام يا عبد الله ؛ ما الذي أقدمك في هذه الساعة ، و الصخور التي تقذفها منجنيقات الحجاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزاً ؛ قال جئت لأستشيرك ؛ قالت تستشيرني في ماذا ؟ قال : لقد خذلني الناس ؛ و انحازوا عني رهبة من الحجاج ، أو رغبة بما عنده ، حتى أولادي وأهلي انفضوا عني ، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي ، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين ، فقد رأى النهاية المفجعة ؛ رأى أنه لا بد أن يُهزَم ، لأنه ليس ثمة تكافؤ ؛ دولة بني أمية ألقتْ بكل ما عندها من قوة لإنهاء هذه الخلافة التي ظهرت إلى جانب خلافة يزيد ؛ ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا؛ يبدو أنه كان أصلح من يزيد ؛ ولما جمع معاوية وجهاء القوم ليأخذ البيعة لابنه يزيد تكلم الجميع، فأثنوا على يزيد إلا الأحنف بن قيس بقي ساكتاً ، فأربك بسكوته المجلس ، فقال معاوية : يا أحنف ، لمْ تقل شيئاً ؛ فقال : أخاف الله إنْ كذبت ، وأخافكم إن صدقت ؛ فكان تلميحاً أبلغ من تصريح .
على كلٍّ ، ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا ، إذا أنا ألقيت السلاح ، وبايعت عبد الملك بن مروان ؛ فما ترين من رأي ؟ أن ألقي السلاح ، وآخذ من الدنيا ما شئت ، وجلُّ أصحابي انفضوا عني ، حتى أهلي ، و لم يبق معي إلا نفر قليل ، فالأمر عصيب ، إذًا ألقي السلاح ، وآخذ من المال ما شئت ، وتنتهي الحرب ؛ فماذا تتوقعون مِن أمٍّ يأتيها ابنها بين خيارَيْن صعبَيْن ؛ الأول أن يموت ؛ و الثاني أن يبقى حياً ، على يصبح غنياً ، ويدع هذا الأمر ؛ فقالت له :
الشأن شأنك يا عبد الله ؛ أنت أعلم بنفسك ؛ فإن كنت تعتقد أنك على حق ، وتدعو إلى حق فاصبر ، وجالدْ كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك ؛ فهل هي قضيةُ مزاح ؛ لا ، إنها حق أو باطل ، وليس من مساومة على الحق ؛ و إن كنت إنما أردت الدنيا بهذه الخلافة فلبئس العبد أنت ؛ أهلكت نفسك ، وأهلكت رجالك ؛ كان هذا رأيها ، فهل بعد هذا العقل من عقل ؟ ليس الموضوع موضوع مساومة ؛ إن كنت على حق ، وتعتقد أن هدفك الحق ، فامضِ لما أردت ، وإن كنت إنما أردت الدنيا بهذه الخلافة فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت مَن كان معك ؛ أما إن كنت على حق فلك في الذين قتلوا معك أسوة حسنة ؛ كلام حازم واضح قوي ؛ قال لها : ولكني مقتول اليوم لا محالة ؛ وأنا على حق ، وأردت الحق ، وإن فعلت كما تريدين فأنا مقتول لا محالة ؛ قالت : ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختاراً ، فيلعب برأسك غلمان بني أمية ؛ موتك أشرف لك ألف مرة من أن تستسلم ؛ قال : لست أخشى القتل ، وإنما أخاف أن يمثلوا بي ؛ قالت : ليس بعد القتل ما يخافه المرء فإنّ الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ ؛ هل هذه امرأة ؟ نعم ، هذه امرأة تقول هذا الكلام لابنها الذي على وشك الاستشهاد ؛ إن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت رجالك ؛ وإن كنت تعتقد أنك على حق ، وتدعو إلى الحق فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك ؛ فأشرقت أسارير وجهه وقال: بوركت من أم ؛ نعم هذه أم ؛ الآن يأخذون ابنها على الجيش ، وإلى منطقة داخلية جداً ، فتصرخ بشدة ، وتولول ، نعم بوركت من أم ، وبوركتْ مناقبك الجليلة ، فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت ، واللهُ يعلم أني ما وهنت ، ولا ضعفت ، وهو الشهيد عليَّ أني ما قمت بما قمت به حباً في الدنيا وزينتها ، وإنما غضب لله أن تستباح محارمه ، وها أنا ذا ماض إلى ما تحبين ، فإذا أنا قُتِلت فلا تحزني عليَّ ، وسلمي أمرك لله .
أعطته حماسًا كبيرًا جداً ، كان مترددًا ، وأخذ أقصى شحنة من الحماس ، قالت : إنما أحزن عليك يا بني لو قتلت على باطل ، قال : يا أمي كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر في حياته ، ولا عمل بفاحشة قط ، ولم يَجُرْ في حكمٍ ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يكن شيء عنده آثر من رضا الله عز وجل ، طمأنها ، لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي ، فالله أعلم مني بي ، وإنما قلت لأدخل العزاء على قلبك يا أمي قالت : الحمد لله الذي جعلك الله على ما يحب ، وعلى ما أحب أنا ؛ اقترب مني يا بني كي أتشمَّم رائحتك ، ولألمس جسدك ، فقد يكون هذا آخر العهد بك ، النهاية معروفة ، فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما لثماً وتقبيلاً ، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه وتشمَّمَتْهُ ، وقبَّلته ، وأطلقت يديها تتلمس جسده ، ثم ما لبثت أن ردتهما عنه ، وهي تقول : ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله ؟ قال : درعي ، قالت : ليس هذا يا بني لباس من يريد الشهادة ، قال : إنما لبستها كي أطيب خاطرك ، وأسكن قلبك ، قالت : انزعها عنك ، فذلك أشد لحميَّتك ، وأقوى لوثبتك ، وأخف لحركتك ، ولكن البسْ بدلاً منها سراويل مضاعفة ، حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك ، نزع عبد الله بن الزبير درعه ، وشد عليه سراويله ، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال ، وهو يقول : لاَ تَفتُري عن الدعاء لي يا أمي ، فرفعتْ كفيها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم ارحم طول قيامه ، وشدة نحيبه في سواد الليل ، والناس نيام ، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكة ، وهو صائم ، اللهم ارحم بره بأبيه وأمه ، اللهم إني سلمته لأمرك ، ورضيت بما قضيته له ، فأثبني عليه ثواب الصابرين ، ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وعبد الله بن الزبير قد لحق بجوار ربه ، ولم يمضِ على مصرعه سوى أربعة عشر يوماً إلا وأمه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به ، وقد بلغت من العمر مائة عام لم يسقط لها سن .
الآن تخطب بنت ثلاثة عشر عامًا السن محشاة ، عمرها ثلاثون سنة أو خمس وعشرون نصف أسنانها ساقطة ، وقد بدلت ، لكن أسماء لم يسقط لها سن ولا ضرس ، ولم يغب من عقلها شيء .
اللهم ارزقنا الزوجة الصالحة ، لأن الزوجة الصالحة كنز ، والدنيا كلها متاع ، وخير متاعها الزوجة الصالحة ، فهي المربية لأولادها كي يكونوا مؤمنين صادقين .
سيدنا عمر بن الخطاب أرسل كتاباً إلى واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان الصحابي المعروف ، أرسل إليه عمر بن الخطاب كتاباً يقول فيه ، والكتاب أرسله لحذيفة بعد أن بلغه أنَّه تزوج كتابيةً ، وهذا من حقه ، أليس كذلك ؟ قال تعالى :
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
(سورة المائدة)
فأرسل له كتاباً ، وقال له فيه : إذا أتاك كتابي هذا فطلِّق ، هذه الكلمة (طلق) تستلزم أن يكون هذا الزواج صحيحاً ، ولا يقع الطلاق إلا على أساس زواج صحيح ، لكن سيدنا عمر أمره عجيب ، أمره خطي يخاطب به واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان ، يقول فيه : إذا جاءك كتابي هذا فطلق ؛ سيدنا حذيفة من كُتَّاب الوحي ، وكان فقيهًا وعالمًا جليلاً ، فردّ على الخليفة بكتاب آخر قال فيه : يا أمير المؤمنين أحلال هذا الزواج أم حرام ؟ أنا أنفذ أمرك ، لكن أريد أن أطمئن ، وهو يراد أن يذكَّره بقوله تعالى :
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
سورة المائدة ، الآية 5)
أنّه يحل التزوج بهن ، فردّ عليه العمر الخليفة بما ينبئ أنه عالم بالحل والإباحة ، ومع ذلك طلب إليه أن يطلق لأمر آخر برَّره ، قال سيدنا عمر : إني أعلم هذا ، أنا أعلم أن زواجك حلال ، ولكني أخشى الفتنة بين المسلمات ، يعني هذه المسلمة المؤمنة الطاهرة العفيفة إذا تزوّجتَ أنت بغير مسلمة فمَن يتزوج المسلمة ؟ لكنّ كتَّاب السيرة حلّلوا هذا الموقف تحليلات كثيرة : أول تحليل مصلحة عامة ومصلحة خاصة ، وربما تحققت مصلحة سيدنا حذيفة الخاصة ، لأنها تناقضت مع المصلحة العامة ، وهو والي أمير المؤمنين على بلاد فارس ، فإن كانت زوجته كتابية ربما تتسرب إليها بعض الأسرار فتنقلها إلى قومها .
الشيء الثاني عندمـا يعزف الشباب المؤمنون عن الزواج من المسلمات فهذا يجعل بينهن فتنة، فهن لمن إذاً ؟ كلما ذهب طالب إلى أوربا فإنّه يتزوج هناك ، ويعود بامرأة أجنبية ليس لها عاداتنا ، ولا تقاليدنا ، ولا إيماننا ، ولا قيمنا ، حدثني صديق قال : جاء ابني من بلاد الغرب بزوجة ، وبيتهم له شرفة واسعة جداً ، فصارت تستلقي بثياب السباحة ، وتقول : هذا حمام شمسي ، وكل الأبنية مُطِلّة على هذه الشرفة .
فعندما يترك المسلمُ الفتاةَ المسلمة المؤمنة العفيفة ، الحافظة لكتاب الله ، ويبحث عن امرأة منبتها غير منبتنا ، وعاداتها غير عاداتنا ، وتقاليدها غير تقاليدنا ، وربما كانت عدوةً لديننا ، سيدنا عمر أدرك أن الإسلام حينما أباح الزواج بالكتابية لئلا يستوحش أهل الكتاب ، أما حينما تكون الزوجة مصدر خطر على المسلمين ، أو حينما تنشأ فتنة بين المسلمات لعزوف الشباب عن الزواج بهنّ فهذا من شأنه أن يكون محرماً لحكمة سماها علماء الأصول سد الذرائع ، وأنا أعرف عشرات القصص ، بل بضع عشرات مفادها أن مَن تزوج امرأة أجنبية نشأ أولاده على غير دين الإسلام ، وهناك نساء عُدن إلى بلادهن مع البنات ، وزوجها لا يدري ، وليس بإمكانه أن يفعل شيئاً ، لذلك فإنّ موقف سيدنا عمر عندما قال له : طلِّقْ ، موقف سليم ، لأنه يخشى الفتنة على المسلمات ، وهذا من العمل الصالح ، فهذه الفتاة المؤمنة الطاهرة ، العفيفة الملتزمة ، هذه الفتاة لك ولأمثالك ، فإذا بحثت عن فتاة غير مسلمة فهذه لمن إذاً ؟ .
هذه أضفتها للدرس لأن طبيعة الدرس متعلقة بالسيدة أسماء بنت أبي بكر ، فمثل هؤلاء النساء الطاهرات العفيفات ينبغي أن يبحث الشباب عنهن ، ولأن الدنيا كلها متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة .
والحمد لله رب العالمين